كيف يكون الإحسان؟[1]
ليس المطلوب من الإنسان الإحسان مطلقا، فقد يكون الإحسان لغوا لا أثر له، و قد يكون إساءة و إذاية في نفس الأمر و الواقع، وإنما المطلوب منه بعد فضيلة الإحسان أن يعرف موضع الإحسان و وقت الإحسان، كما أن المطلوب منه في أداء الطاعات أن يؤديها بالكيفية المشروعة في وقتها المشروع، و إلا عد عابثا مضيعا للوقت، أو عاصيا آثما.
إن الناس ليسوا أشحاء و لا بخلاء، فهم أجواد كرماء أسخياء إلا القليل منهم، و لكن الكثير من المحسنين لا يعرفون كيف يكون الإحسان و أين هو موضع الإحسان؟ فهم يحسنون و يتكرمون لكن يبذرون بذور الإحسان غالبا في أراضي قاحلة ميتة، لا تنبت لإحسانهم زروعا حية مغذية للأمة، منعشة لروح البلاد.
يحسن المحسن و يوصي الموصي و يرصد أموالا طائلة وقفا على كذا أو كذا، و لكن لا تجد من بين فصول الإحسان التي نص عليها فصلا واحدا لمشروع حي ينعش الأمة و يغذيها بما يحيي مجدها و شرفها.
و قد تنبه لهذه النقطة ذلك الكاتب الذائع الصيت المنفلوطي في نظراته،و أبان للقارئ أين يبذر المحسنون أموالهم، و حكى حكاية خلاصتها أنه سأل بعض الأغنياء المتوسطين: ما هي المواضع التي يحسن فيها؟ فسرد له قائمة في ذلك، و بين له أنه يصرف كذا وكذا جنيه للزوار الذي يجوبون البلاد باسم الشرف الدائر، و كذا و كذا ضيافة لمشايخ الطرق، و كذا في حفلات الطرقيين، وكذا يوضع في صناديق القبور، و كذا يشترى شمعا لإضاءة أضرحة الأولياء، و انتهى به ما يصرفه عن ذلك في كل سنة إلى مجموع 245 جنيها، قال: هذا من المتوسط، و ضعفه لا محالة من كبار الأغنياء، و جزء منه من الفقراء مما لو ضرب في 14 مليون من سكان القطر المصري لكان المجموع ملايين مما لو بذل في طلب استقلال مصر لنالته منذ زمان".
هذا في مصر الناهضة التي هي دماغ البلاد العربية و الإسلامية، فما بالك ببلاد كبلاد الجزائر؟ نحن لا نتعرض هنا للمترفين المسرفين المبذرين أموالهم في الخمور و الفجور و القمار و ما إليها، فهؤلاء لا كلام لنا معهم الآن، و إنما كلامنا مع من يحسب أنه يحسن، وهو في الواقع إن لم يضر بإحسانه فليس ينفع به نفعا يذكر.
يقيم أحد مهرجان زفاف و يصرف فيه عشرات الآلاف، يعلم الله أين تتسرب و أين تذوب، يذيب له المخ و يكسر العظم و يعطل الفروض و يرهن الأملاك لأجل ماذا؟ لأجل إقامة مهرجان يمثل فيه إبليس و أعوانه روايات من المخازي و الأضاحيك، و لو سئل هذا عن مبلغ اشتراك في مشروع خيري حي لاعتذر بألف من الأعذار.
يبذل المئات الألوف إعانة لصاحبه، على ماذا؟ إما على الخصام بالفجور تأييدا لجانب الباطل، و كسرا لشوكة الحق تعصبا و حمية جاهلية، و إما على مطالبة بوظيف له، لا لأنه نصير الحق و مبيد للباطل، بل لأنه أخوه و صديقه و قريبه، و إن كان من أشد الناس عبثا في الأرض و فسادا، و لو سئل هذا فلسا واحدا لمشروع إصلاحي لتثاءب و تناوم.
تلزم أحدا في ماله حقوق و تتعلق به واجبات، فعوض أن يصرفها في المشاريع الحية مما فيه حياة البلاد و نفع العباد ينتحل لنفسه انتحالات، و ينحت من النصوص الفقهية تآويل تبيح له صرفها ممن لا حق له فيها من أقاربه و خدامه و كل من يستخدمه ويسخره لمصالحه الذاتية من المحاسيب العاطلين الذين لا نفع لهم للأمة و البلاد، و إذا خوطب في ذلك تبلد و ثقل سمعه و لا يفهم هنا كلاما.
ينهمك أحد في اكتناز الأموال و جمع الدينار و الدرهم، و إذا ما حضرته الوفاة رجع إلى ربه و تنصل من التبعات فيوصي بثلث ماله للحق الذي له فيه، و ينص في وصيته عن الفصول التي يصرفها فيها، و عوض أن يدقق النظر في اختيار تلك الفصول و يتحرى المواضيع التي فيها حياة الدين و الدنيا، و أن يختار من الكتاب من يدله على تلك الأبواب، فإنه يتبع في تعيينها العادة المتعارفة منذ القديم و لو تبدلت أساليب الحياة و أوضاع المعاش، و يستدعي من الكتاب من لا يخطر له هو على باله ذلك و لا يهضمه، و لأن توفق إلى اختيار بعض الأبواب أو اختيار بعض الكتاب الذين يعرفون أين يجب الإحسان فإنه تخونه فراسته في اختيار وكيل الوصية، فعوض أن يختار مديرا حكيما عفيفا يقوم في تنفيذها مقامه فإنه يختار إما جاهلا بأمورها، و إما شاطرا من الشطار يجمع مصارفها من هنا و هناك و يوجهها إلى حجره أو حجر من يتصل به.
يرى كل من يتتبع الحركات العالمية في الجرائد و المجلات كيف يحسن المحسنون الذين يعرفون حقا أين يكون الإحسان، يرى أن الأمير الفلاني تبرع بمئة ألف جنيه لبناء مستشفى في البلد الفلاني، و الأمير الفلاني تبرع بما يلزم لبناء مستشفى و خمسين فدانا وقفا له في الناحية الفلانية، و الأميرة فلانة تبرعت بمئتي ألف جنيه لتأسيس جمعية إسلامية لنشر الدعوة و الإرشاد في أطراف البلاد، والأمير الفلاني بخمسين ألف جنيه إعانة للحكومة لبناء معمل طبي في البلد الفلاني، و المسيو فلان تبرع بنصف مليون فرنك لزيادة القسم الفلاني في الكلية العلمية الفلانية، إلى آخر ما يذل فيه المحسنون أموالهم لتحسين حالة الإنسان ماديا و أدبيا.
و متى تتحسن حالتنا الصحية و العقلية إذا أغفل المحسنون منا حال الأمة التي تستلزم الاهتمام و الاعتناء من إنشاء المعاهد العلمية والصحية و تنشيط الأدباء و النجباء و الأذكياء من أبناء الأمة، و من أين يستخرج نبوغهم و تستثمر ثمرات عقولهم إذا أهملوا وتركوا في حال ضنك و بؤس و شقاء يغالبون الدهر و يكابدون مصاعب الحياة؟ و أي نفع يرجى من إحسان يبذر في مواضع عاطلة أو ناس عاطلين؟
قبل الاعتناء بحفر الآبار في شوارع البلاد و أنهجها، و قبل الاهتمام برصد الأموال الطائلة لها يجب الاهتمام بحفر آبار العقول، وتفجير عيون العلوم في أدمغة الشبان الأذكياء، فالأمة إلى هذه العلوم الثرارة أحوج منها إلى نقب الأرض، و لا يطفئ حريق الجهل دلو من تلك الآبار الأرضية، و إنما يطفئه لوح و محبرة و قلم و كتاب، و يطفئه فتح المعاهد العلمية و مد يد المساعدة للشبان الفقراء الأذكياء بتسهيل وسائل التعليم لهم، و تمهيد طرق التربية الصحيحة أمامهم قبل الاهتمام بأدوات الأشغال من فأس و مسحة و حبل و رحا و خشب النسج و مراجل و قدور و أوتاد و غيرها، و قبل رصد الأموال لها يجب التفكير في استنساخ الكتب القيمة أو طبعها و تقريب منالها البعيد للمتعلمين بتأسيس مكتبة عمومية تجمع في خزائنها أسفارا من نفائس الكتب و مآثر الأجداد الخالدة.
قبل التفكير في تحبيس شجر الرمان للمرض و نحوه، يجب التفكير في إنشاء مستوصف طبي يجمع إليه الأدوية و العقاقير اللازمة للمرضى الفقراء، و هكذا..
و لسنا إخواننا ننكر تلك المصارف المتقدمة في حد ذاتها إلا البعض منها، و إنما نناديكم بأعلى صوتنا إلى أن حياة اليوم غير حياة الأمس، و أن حياة الغد غير حياة اليوم، و أنه يجب أن تكون مواضع الإحسان تبعا للظروف و تطور أساليب الحياة غير خارج عن دائرة الدين، فقد رأيتم و سمعتم أساليب الأمس و أساليب اليوم، و لمستم الفرق العظيم و البون الشاسع بينهما، و هل من العقل و المصلحة أن نبقى على أساليب الأمس و الوقت يسير بنا على أجنحة البخار و الكهرباء.
إن مواضع الإحسان لا محالة تابعة في أهميتها لأساليب الحياة، فإذا كان أسلوب اليوم في إنشاء المعاهد العلمية و العملية و الطبية وإعداد النشء لحوادث الزمان و تكوين جيوش من الكتبة و حملة الأقلام، فهل من الملائم لهذا الأسلوب أن نبقى في حفر الآبار ونصرف الباهظة لأمثالها، أو ليس هذا في واد و أسلوب الحياة اليوم في واد؟
ليت شعري كيف يسوغ عقل الإنسان له أن يبذل قنطارا من الزرع في أرض قاحلة جرداء و يعدل عن بذره في أرض خصباء، مع أنه في الأولى إذا حصد لا يحصل على ربع بذره، بخلافه في الثانية إذا حصد يحصل منها أضعافه؟ أيعدل عن تحصيل عشرات القناطير من قنطار واحد، إلى خسارة قسط كبير من رأس المال مع التعب و العناء؟
إن حال المحسنين منا اليوم بمثابة ذلك الحارث في أرض جرداء العادل عن الحرث في الأرض الخصباء، فإن اعتناءهم بالأمور التافهة المتقدمة و عدولهم عن المصالح الهامة العامة يدل دلالة واضحة على ذلك، سواء كان ذلك منهم عن قصد أو غير قصد.
إن بذل الشيء في المواضع القليلة الأهمية كبذر حبة أنبتت حبة، و البذل في المواضع الكبرى العمومية كبذر حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة و الله يضاعف لمن يشاء، و من ذا الذي يعدل عن سبعمائة حبة إلى حبة واحدة؟
فانتبهوا أيها الإخوان و اعرفوا أين تزرعون بذور إحسانكم، فإذا بسطت الأيدي فلتبسط فيما النفع فيه للأمة و البلاد أجزل والخير فيه أعظم و الأجر فيه أكمل و أتم
ليس المطلوب من الإنسان الإحسان مطلقا، فقد يكون الإحسان لغوا لا أثر له، و قد يكون إساءة و إذاية في نفس الأمر و الواقع، وإنما المطلوب منه بعد فضيلة الإحسان أن يعرف موضع الإحسان و وقت الإحسان، كما أن المطلوب منه في أداء الطاعات أن يؤديها بالكيفية المشروعة في وقتها المشروع، و إلا عد عابثا مضيعا للوقت، أو عاصيا آثما.
إن الناس ليسوا أشحاء و لا بخلاء، فهم أجواد كرماء أسخياء إلا القليل منهم، و لكن الكثير من المحسنين لا يعرفون كيف يكون الإحسان و أين هو موضع الإحسان؟ فهم يحسنون و يتكرمون لكن يبذرون بذور الإحسان غالبا في أراضي قاحلة ميتة، لا تنبت لإحسانهم زروعا حية مغذية للأمة، منعشة لروح البلاد.
يحسن المحسن و يوصي الموصي و يرصد أموالا طائلة وقفا على كذا أو كذا، و لكن لا تجد من بين فصول الإحسان التي نص عليها فصلا واحدا لمشروع حي ينعش الأمة و يغذيها بما يحيي مجدها و شرفها.
و قد تنبه لهذه النقطة ذلك الكاتب الذائع الصيت المنفلوطي في نظراته،و أبان للقارئ أين يبذر المحسنون أموالهم، و حكى حكاية خلاصتها أنه سأل بعض الأغنياء المتوسطين: ما هي المواضع التي يحسن فيها؟ فسرد له قائمة في ذلك، و بين له أنه يصرف كذا وكذا جنيه للزوار الذي يجوبون البلاد باسم الشرف الدائر، و كذا و كذا ضيافة لمشايخ الطرق، و كذا في حفلات الطرقيين، وكذا يوضع في صناديق القبور، و كذا يشترى شمعا لإضاءة أضرحة الأولياء، و انتهى به ما يصرفه عن ذلك في كل سنة إلى مجموع 245 جنيها، قال: هذا من المتوسط، و ضعفه لا محالة من كبار الأغنياء، و جزء منه من الفقراء مما لو ضرب في 14 مليون من سكان القطر المصري لكان المجموع ملايين مما لو بذل في طلب استقلال مصر لنالته منذ زمان".
هذا في مصر الناهضة التي هي دماغ البلاد العربية و الإسلامية، فما بالك ببلاد كبلاد الجزائر؟ نحن لا نتعرض هنا للمترفين المسرفين المبذرين أموالهم في الخمور و الفجور و القمار و ما إليها، فهؤلاء لا كلام لنا معهم الآن، و إنما كلامنا مع من يحسب أنه يحسن، وهو في الواقع إن لم يضر بإحسانه فليس ينفع به نفعا يذكر.
يقيم أحد مهرجان زفاف و يصرف فيه عشرات الآلاف، يعلم الله أين تتسرب و أين تذوب، يذيب له المخ و يكسر العظم و يعطل الفروض و يرهن الأملاك لأجل ماذا؟ لأجل إقامة مهرجان يمثل فيه إبليس و أعوانه روايات من المخازي و الأضاحيك، و لو سئل هذا عن مبلغ اشتراك في مشروع خيري حي لاعتذر بألف من الأعذار.
يبذل المئات الألوف إعانة لصاحبه، على ماذا؟ إما على الخصام بالفجور تأييدا لجانب الباطل، و كسرا لشوكة الحق تعصبا و حمية جاهلية، و إما على مطالبة بوظيف له، لا لأنه نصير الحق و مبيد للباطل، بل لأنه أخوه و صديقه و قريبه، و إن كان من أشد الناس عبثا في الأرض و فسادا، و لو سئل هذا فلسا واحدا لمشروع إصلاحي لتثاءب و تناوم.
تلزم أحدا في ماله حقوق و تتعلق به واجبات، فعوض أن يصرفها في المشاريع الحية مما فيه حياة البلاد و نفع العباد ينتحل لنفسه انتحالات، و ينحت من النصوص الفقهية تآويل تبيح له صرفها ممن لا حق له فيها من أقاربه و خدامه و كل من يستخدمه ويسخره لمصالحه الذاتية من المحاسيب العاطلين الذين لا نفع لهم للأمة و البلاد، و إذا خوطب في ذلك تبلد و ثقل سمعه و لا يفهم هنا كلاما.
ينهمك أحد في اكتناز الأموال و جمع الدينار و الدرهم، و إذا ما حضرته الوفاة رجع إلى ربه و تنصل من التبعات فيوصي بثلث ماله للحق الذي له فيه، و ينص في وصيته عن الفصول التي يصرفها فيها، و عوض أن يدقق النظر في اختيار تلك الفصول و يتحرى المواضيع التي فيها حياة الدين و الدنيا، و أن يختار من الكتاب من يدله على تلك الأبواب، فإنه يتبع في تعيينها العادة المتعارفة منذ القديم و لو تبدلت أساليب الحياة و أوضاع المعاش، و يستدعي من الكتاب من لا يخطر له هو على باله ذلك و لا يهضمه، و لأن توفق إلى اختيار بعض الأبواب أو اختيار بعض الكتاب الذين يعرفون أين يجب الإحسان فإنه تخونه فراسته في اختيار وكيل الوصية، فعوض أن يختار مديرا حكيما عفيفا يقوم في تنفيذها مقامه فإنه يختار إما جاهلا بأمورها، و إما شاطرا من الشطار يجمع مصارفها من هنا و هناك و يوجهها إلى حجره أو حجر من يتصل به.
يرى كل من يتتبع الحركات العالمية في الجرائد و المجلات كيف يحسن المحسنون الذين يعرفون حقا أين يكون الإحسان، يرى أن الأمير الفلاني تبرع بمئة ألف جنيه لبناء مستشفى في البلد الفلاني، و الأمير الفلاني تبرع بما يلزم لبناء مستشفى و خمسين فدانا وقفا له في الناحية الفلانية، و الأميرة فلانة تبرعت بمئتي ألف جنيه لتأسيس جمعية إسلامية لنشر الدعوة و الإرشاد في أطراف البلاد، والأمير الفلاني بخمسين ألف جنيه إعانة للحكومة لبناء معمل طبي في البلد الفلاني، و المسيو فلان تبرع بنصف مليون فرنك لزيادة القسم الفلاني في الكلية العلمية الفلانية، إلى آخر ما يذل فيه المحسنون أموالهم لتحسين حالة الإنسان ماديا و أدبيا.
و متى تتحسن حالتنا الصحية و العقلية إذا أغفل المحسنون منا حال الأمة التي تستلزم الاهتمام و الاعتناء من إنشاء المعاهد العلمية والصحية و تنشيط الأدباء و النجباء و الأذكياء من أبناء الأمة، و من أين يستخرج نبوغهم و تستثمر ثمرات عقولهم إذا أهملوا وتركوا في حال ضنك و بؤس و شقاء يغالبون الدهر و يكابدون مصاعب الحياة؟ و أي نفع يرجى من إحسان يبذر في مواضع عاطلة أو ناس عاطلين؟
قبل الاعتناء بحفر الآبار في شوارع البلاد و أنهجها، و قبل الاهتمام برصد الأموال الطائلة لها يجب الاهتمام بحفر آبار العقول، وتفجير عيون العلوم في أدمغة الشبان الأذكياء، فالأمة إلى هذه العلوم الثرارة أحوج منها إلى نقب الأرض، و لا يطفئ حريق الجهل دلو من تلك الآبار الأرضية، و إنما يطفئه لوح و محبرة و قلم و كتاب، و يطفئه فتح المعاهد العلمية و مد يد المساعدة للشبان الفقراء الأذكياء بتسهيل وسائل التعليم لهم، و تمهيد طرق التربية الصحيحة أمامهم قبل الاهتمام بأدوات الأشغال من فأس و مسحة و حبل و رحا و خشب النسج و مراجل و قدور و أوتاد و غيرها، و قبل رصد الأموال لها يجب التفكير في استنساخ الكتب القيمة أو طبعها و تقريب منالها البعيد للمتعلمين بتأسيس مكتبة عمومية تجمع في خزائنها أسفارا من نفائس الكتب و مآثر الأجداد الخالدة.
قبل التفكير في تحبيس شجر الرمان للمرض و نحوه، يجب التفكير في إنشاء مستوصف طبي يجمع إليه الأدوية و العقاقير اللازمة للمرضى الفقراء، و هكذا..
و لسنا إخواننا ننكر تلك المصارف المتقدمة في حد ذاتها إلا البعض منها، و إنما نناديكم بأعلى صوتنا إلى أن حياة اليوم غير حياة الأمس، و أن حياة الغد غير حياة اليوم، و أنه يجب أن تكون مواضع الإحسان تبعا للظروف و تطور أساليب الحياة غير خارج عن دائرة الدين، فقد رأيتم و سمعتم أساليب الأمس و أساليب اليوم، و لمستم الفرق العظيم و البون الشاسع بينهما، و هل من العقل و المصلحة أن نبقى على أساليب الأمس و الوقت يسير بنا على أجنحة البخار و الكهرباء.
إن مواضع الإحسان لا محالة تابعة في أهميتها لأساليب الحياة، فإذا كان أسلوب اليوم في إنشاء المعاهد العلمية و العملية و الطبية وإعداد النشء لحوادث الزمان و تكوين جيوش من الكتبة و حملة الأقلام، فهل من الملائم لهذا الأسلوب أن نبقى في حفر الآبار ونصرف الباهظة لأمثالها، أو ليس هذا في واد و أسلوب الحياة اليوم في واد؟
ليت شعري كيف يسوغ عقل الإنسان له أن يبذل قنطارا من الزرع في أرض قاحلة جرداء و يعدل عن بذره في أرض خصباء، مع أنه في الأولى إذا حصد لا يحصل على ربع بذره، بخلافه في الثانية إذا حصد يحصل منها أضعافه؟ أيعدل عن تحصيل عشرات القناطير من قنطار واحد، إلى خسارة قسط كبير من رأس المال مع التعب و العناء؟
إن حال المحسنين منا اليوم بمثابة ذلك الحارث في أرض جرداء العادل عن الحرث في الأرض الخصباء، فإن اعتناءهم بالأمور التافهة المتقدمة و عدولهم عن المصالح الهامة العامة يدل دلالة واضحة على ذلك، سواء كان ذلك منهم عن قصد أو غير قصد.
إن بذل الشيء في المواضع القليلة الأهمية كبذر حبة أنبتت حبة، و البذل في المواضع الكبرى العمومية كبذر حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة و الله يضاعف لمن يشاء، و من ذا الذي يعدل عن سبعمائة حبة إلى حبة واحدة؟
فانتبهوا أيها الإخوان و اعرفوا أين تزرعون بذور إحسانكم، فإذا بسطت الأيدي فلتبسط فيما النفع فيه للأمة و البلاد أجزل والخير فيه أعظم و الأجر فيه أكمل و أتم